٠٧ سبتمبر ٢٠٠٦

نجيب مات

رحل نجيب محفوظ بعد أن ترك عددا من المؤلفات ملأت رفوف المكتبات العربية، وتراثا أدبيا وفكريا كان له أثره الكبير في تطور الرواية العربية وضجيجا خلقته مواقفه ومقولاته الفكرية التي أدلى بها بصوته الهادئ المعهود ولكنها أثارت جدلا محتدما في مناسبات عدة.
الثورة الصامتة يقول الكاتب د.غالي شكري في كتابه "المنتمي" الذي تناول بالتحليل أدب نجيب محفوظ ودوره في تطوير الرواية العربية ان نجيب محفوظ تسلم أمانة الرواية المصرية من توفيق الحكيم وتحمل عبء الرواية العربية منذ الأربعينات"محاولا صياغة وجهها الحديث المعبر عن تناقضات المرحلة الدامية التي وصلت اليها حضارتنا".
لم ينقل محفوظ اطارا روائيا جاهزا في الأدب الغربي، كما يؤكد شكري، ولم يطبق مذهبا فكريا بعينه وانما حاول أن يكتشف الصيغة الجمالية الصحيحة "باختيار شتى الأطر الفنية والمذاهب الفكرية في أرض الواقع المصري".
وفضلا عن استنباطه صيغته الجمالية من الواقع المصري، فانه استقى مواضيع العديد من رواياته (خاصة الأوائل منها) من التاريخ المصري كما في حالة "عبث الأقدار، 1939" و"رادوبيس، 1943" و"كفاح طيبة، 1944" بالاضافة الى رواية "ليالي ألف ليلة" المستوحاة من التراث الأدبي العربي .
وكما استقى شكل أدبه ومضمونه من الواقع المصري فان نجيب محفوظ اضطلع بمهمة نضالية شجاعة تجاه مجتمعه ولكن بصمت طوال فترة عطائه الأدبي.
هناك سؤال تردد عبر العصور حول وظيفة الأدب وان كان يضطلع بمهمة مباشرة تتناول الواقع الاجتماعي والسياسي السائد في مجتمع ما، وولدت حول ذلك العديد من النظريات بعضها ينادي بوظيفة اصلاحية مباشرة للأدب وبعضها على النقيض الاخر ينكر اي دور له خارج نطاق الدور الجمالي، وبين هاذين النقيضين اتسعت الفسحة للعديد من الأراء الأخرى التي شغلت الحركة النقدية العربية والعالمية منذ نعومة أظفارها.
يمكن أن نطلق لقب "الثائر بصمت" على نجيب محفوظ اذا أخذنا بعين الاعتبار الدور الذي لعبه أدبه في تفاعله مع الواقع الاجتماعي بل والسياسي المصري على مدى عقود، بصمت ودون ضجيج أو ادعاء.
نطق هذا الصامت في وقت صمت فيه الناطقون، وكان صوت أبطال رواياته وقصصه القصيرة هو الصوت "السياسي" الوحيد المسموع طوال الحقبة الناصرية التي شهدت انتحار النقد السياسي بل حتى الثقافي.
في تلك الحقبة شكل أدب نجيب محفوظ حزبا سياسيا قائما بذاته، يقاتل بهدوء وينتقد برصانة ويحلل بذكاء أمراض الواقع الاجتماعي-السياسي في وقت اختار الاخرون اما التصفيق أو الصمت.
صور محفوظ في رواياته الأمراض الاجتماعية المستشرية والتيارات السياسية والفكرية التي اضطربت تحت السطح الراكد لمياه الحياة السياسية المصرية، وقد كتب محفوظ عام 1977 قائلا:"لا تخلو رواية من رواياتي من السياسة"، ولكن أي سياسة ؟ السياسة التي نجدها في روايات نجيب محفوظ اما تسقط المعاصر على الغابر أو ترصد الحاضر وتصوره اما بمباشرة أو برمزية.
في رواية "اللص والكلاب" نجد الصراع بين المبادئ والخيانة والتخلي كما نستطيع رصد موقف ثوري من النمطية والمفاهيم السائدة، فنجد البطلين الايجابيين في الرواية هما لص ومومس، وطبعا البطولة الايجابية هنا تفهم بشكل نسبي وضمن نسيج وتركيب الرواية ذاتها.
أما في رواية "ثرثرة فوق النيل" التي كتبها محفوظ عام 1966 فنجد تحليلا لافات المجتمع المصري التي بناء عليها استطاع الكاتب "التنبؤ" بهزيمة عام 1967 والصحوة المؤقتة التي أعقبت الصدمة (حين صدمت السيارة التي كانت تستقلها شلة مستهترة فلاحة، والمأزق الذي نجم عن ذلك ودفع الجميع للتفكير بطريقة للخروج من المأزق).
وفي رواية "الكرنك" تصوير لارهاب النظام وغياب الديموقراطية، وفي روايات ومجموعات قصصية أخرى نرى اطلالات لشخصيات متنوعة وعلاقاتها المختلفة بالنظام من اعتباره خائنا للمبادئ التي جاء محمولا عليها الى السلطة الى اعتباره "مخربا" للتركيبة الاجتماعية- الاقتصادية السائدة في المجتع المصري الى الحماس غير المشروط لطروحاته وشعاراته.
"مات الملك، عاش الملك" وبخلاف مواقف العديد من الكتاب المصريين الآخرين الذين إما التزموا الصمت أو اختاروا مداهنة النظام لينقضوا عليه بعنف فور موت الزعيم ويبدأوا التملق "للملك الجديد"، التزم محفوظ بخطه الناقد بهدوء واحتفظ بمبضعه يشرح فيه "مجتمع الانفتاح" ويقدم لنا شخصيات انتهازية جديدة تسلقت السلم الجديد وبدأت في نهش النظام السابق الذي اختارت محاباته في أوج سلطته، كما يقدم لنا الطبقة الجديدة المغلوبة على أمرها التي تصارع من أجل هدف "اسمى" جديد يتمثل في تامين "الخلو" للحصول على شقة يبدأون بها الحياة الزوجية.
كما يقدم لنا محفوظ نموذجا ليس جديدا في جوهره بقدر ما هو جديد في افتقاره الى الحد الأدنى من الحس الضميري والاخلاقي، أعني بها طبقة "المتسلقين" والـ"هباشين" الذين انقضوا على الفرص التي أتاحتها سياسة الانفتاح الجديدة دون أدنى تردد في الدوس بالأقدام على كل من تضعه الظروف في طريقهم بلا هوادة أو رحمة.
ويرصد محفوظ ارهاصات مجتمع الانفتاح الذي وجد نفسه في وضع غير قابل للتصديق وافرازه مواقف متباينة للمصدومين ربما تلخصها عبارة رددتها احدى شخصياته في رواية "ليالي ألف ليلة" وهي عبارة "مذهب للسيف ومذهب للحب" التي رددها شيخ يجسد الموقف السلبي المسالم من "الشر" في الوقت الذي يعترف فيه بوجود من يوحي له الوضع "بامتشاق السيف".
وقد أفرد محفوظ مساحة في بعض رواياته لمن امتشقوا السيف، فنجده في رواية "ليالي ألف ليلة" يصور الغليان الذي اجتاح المجتمع المصري في أجواء الاعتقالات وتقييد الحريات، وفي رواية "يوم قتل الزعيم" نجده قد ربط السبب بالمسبب.
أين يقف الراوي ؟ أين كان يقف نجيب محفوظ من الشخصيات التي صورها في رواياته وقصصه ؟ لقد التزم الحياد طبعا، ولكننا كقراء لا بد أن نلاحظ من الطريقة التي يصيغ بها مصائر الشخصيات والطرق التي يقودها اليها والزوايا التي ينظر اليها منها انه مع وقوفه على ناصية المشهد، الا انه يبتسم أحيانا ويقطب أحيانا أخرى ولكن دون أن ينفعل أو يصطنع المبالاة.
لا بد أن يلاحظ القارئ نظرته الى الشخصيات التي تمثل اليسار واليمين السياسي على انها "هامشية وغير فاعلة" ولا بد أن نلاحظ شيئا من السخرية المبطنة في تصويره لبعض شخصيات البرجوازية الصغيرة المتطلعة الى فوق دائما والتي تتخبط في لهاثها باتجاه القمة التي تصبو اليها، وأحيانا تكبو أو تسقط فيدك عنقها.
كما أسلفنا مواقف محفوظ من شخصياته وأحداثه ليست "مواقف معلنة" وهي بعيدة كل البعد عن المباشرة والوعظ .
اكتمال الدورة وحتمية الأفول قبل أشهر صرح الكاتب الكولومبي العالمي غابرييل غارسيا ماركيز أنه يحس ان الوقت قد حان لتوقفه عن الكتابة، لانه لم يعد يحس بالكلمات والأفكار تنساب بسلاسة عبر قلمه.
نجيب محفوظ وصل الى هذه المرحلة ربما تحت ضغط عامل قسري، فهو الذي يعاني من مشاكل في الرؤية كان قد تعرض لاعتداء على حياته ترك احدى يديه شبه مشلولة، وكانت هذه هي النقطة التي اعتزل فيها الكتابة.
لكن الرحلة من القمة ابتدأت قبل ذلك ، فقد وصل محفوظ الى نقطة اكتملت فيها رؤيته الحضارية والثقافية التي وجدت تعبيرا لها في كم هائل من الأعمال الروائية والقصصية وعدد كبير من الأحاديث التي أدلى بها والندوات التي شارك فيها.
لقد وصلت رؤيته وفعله الأدبي نقطة القمة التي يفضل الكثيرون التوقف عندها، ولكن محفوظ اختار البقاء في الصورة لفترة أخرى شهدت بداية انحدار تدريجي بلغ أوجه (أو ربما حضيضه) في الكلمة التي كتبها (أو كتبت باسمه) وتليت في معرض الكتاب الدولي في فرانكفورت عام 2004 والذي كان فيه العالم العربي ضيف شرف على المعرض، فقد كانت تلك الكلمة مفككة وهزيلة الشكل والمضمون. عندها أحس الكثيرون بالحزن لفشل هذا الشخص العبقري في تحديد نقطة الصمت الحكيم، ليكون ما يتركه في الذاكرة هو قمة عطائه.
وقبل ذلك قال محفوظ في مقابلة صحفية مشيرا الى أحدى رواياته الأخيرة انها "لم تكن ضمن مخططاته، ولكن بقيت لعض الشخصيات من رواية "المرايا" دون استخدام، فكتب لها رواية"، مما يلقي الضوء على مفهوم للكتابة لا علاقة له بمفهوم وأسلوب عمل محفوظ في أوج عطائه.
كذلك بدأ محفوظ يقع في أخطاء في قصصه الأخيرة لم تكن تميز ما كتبه في مرحلة سابقة، فقراءة في قصة "أهل القمة" التي تحولت الى فيلم يحمل نفس العنوان، تجعلنا نجد بصمات محفوظ العبقرية من حيث فهم السيكولوجية البشرية، ولكننا نجد أيضا بعض الهنات والهفوات التي لم تكن تميز كتابته.
احدى شخصيات هذه القصة مثلا تقول واصفة وضعا ما مرت به: قال لي ..........فلمعت عيناي (......) فقال لي........... الشخصية كانت "راوية مشاركة" في ذلك الجزء من القصة، وهي بالتالي لا يمكن أن تصف "لمعان عينيها"، الراوي يستطيع قول ذلك فيما يتعلق بشخصية أخرى، أما الراوي المشارك فلا، وهذه هفوة من غير المفروض أن يقع بها حتى كاتب مبتدئ.
اذن أصر محفوظ على استكمال الدورة الطبيعية، فمن القمة بدأ تدريجيا بالنزول الى أن توقف عن الكتابة لأسباب موضوعية، ويتمنى الكثير من قرائه ومحبيه لو كان فعل ذلك مختارا في مرحلة أبكر، كما فعل الكاتب الكبير غابرييل غارسيا ماركيز.

ليست هناك تعليقات:


Free Blogger Templates by Isnaini Dot Com . Powered by Blogger and PDF Ebooks